Thursday 24 December 2015
December 24, 2015

الاستحالة 3/3: هل تأثُّر جزئيات الجيلاتين وتعرُّضه للحمض يضمن لنا وقوع الاستحالة فيه؟ - نقاش جانبي



فيما يتعلق بمضمون التحقيق البحثي الذي جاء في جزئه الأول حول عدم تحقق الاستحالة في موضوع الجيلاتين من الجانب العلمي المتوافق مع تعريف الإستحالة اصطلاحًا، هل صحيح: "بأنَّ تأثر أكثر جزئيات المادة وتعرضها للحمض كفيل بتحقق موضوع الاستحالة فيها، وعليه فالاستحالة حاصلة في الجيلاتين؟".

وهنا، سأفكك تلك العبارة وسأرد عليها (علميًا، وبما يتناسب والفهم الإصطلاحي والعرفي والبيولوجي في موضوع الاستحالة)؛ ويجب أنْ نلتفت إلى أنَّ هذه المقالة هي نقاش على هامش التحقيقين البحثيين المرتبطين بالجيلاتين.

أولًا: إنْ كان المقصود من تأثُّر أكثر جزيئات المادة، وقُصِدَ بالمادة في تلك العبارة "الجيلاتين"، فهذا الكلام على المستوى العلمي غير صحيح، وسترفضه المؤسسات العلمية والبحثية جملةً وتفصيلًا، لأنَّ مسمى الجيلاتين يتحقق دون انفصال اي روابط بينية بين الجزيئات، وانفصالها ليس شرطًا للحصول على الجيلاتين (وهو المحور الذي سيتم توضيحه علميًا في الجزء الثاني من التحقيق البحثي الذي سيكون مُعَنوَن بـ: "بحث مُتَوَسِّع يُناقش الجوانب العلمية الدقيقة للجيلاتين الحيواني - لمُشَخِّصي الأحكام الفقهية من طلاب العلوم الدينية").

وبصفتي أتحدث كأحد الباحثين العاملين في هذا المجال الدقيق، أي مجال كشف وفصل بروتينات دقيقة (بعضها يُصَنَّف كمُضادات حيوية) وبحجم متناهي في الصغر تُسمى "ببتايد" (peptides)، بل ومن كائنات لا تُرى بالعين المُجَرَّدة، فأعلم بأنَّ تلك المركبات المُستَقِلَّة تُفصَل من بين ملايين المركبات المخلوطة (وليس المتحدة). بل أنَّ ما يدل على كفاءة تلك البروتينات احتفاظها بوظائفها الحيوية بالصورة نفسها التي يقوم بها الكائن الحي (دون تغيير أو تبديل)؛ حيث أنَّنا اليوم نتحدث عن فصل دقيق جدًا للبروتينات وهو أشبه بالانتزاع بالصورة والشكل الموجودين في تركيبتها الأم.

وأمَّا إنْ كان المقصود- كما ذكر أحد المؤمنين- مادة الجلد نفسها، أو ما شابه من أنظمة مُعَقَّدَة، (علمًا بأنَّ الجلد ليس هو الجزء الوحيد الذي يتم استخدامه لهذا الغرض، فهناك العظام والغضاريف وما شابه)، فهذا الكلام أيضًا من الناحية العلمية غير صائب، لأنَّ الجلد ليس بمادة مُستَقِلَّة، بل هو أكبر من أنْ يكون مُجَرَّد مادة، فنسميه أحيانًا بالنظام أو العضو أو بمجموعة الأنسجة التي لا يمت بعضها لبعضها الآخر بصلة حقيقية على المستوى الوظيفي سوى أنَّها اجتمعت فيما بينها وكَوَّنت هذا الوقاء الحامي الذي نطلق عليه الجلد؛ ونستطيع أنْ نُسَمِّيه- مجازًا أيضًا- بمجموعة المواد المُكَوِّنة للجلد، وما شابه من تسميات تهدف لإيصال فكرة أنَّه ليس بمادة مُستَقِلَّة في حد ذاتها. فهو يتكون من الشعر وهو مادة، ويتكون من الدهون وهي مادة، ويتكون من الدم وهو مادة، ويتكون من الكثير من الأنسجة وهي مجموعة مواد، وهكذا. 

أمَّا في الجانب الآخر، فهو سؤالي: "لماذا إذًا يدور السؤال حول استحالة مادة الجيلاتين على وجه الخصوص من عدمها؟"؛ ولماذا لا يتم صياغة السؤال (على المستوى العلمي) لتكون مرتبطة بالجلد فقط. ولو فرضنا قبولنا (علميًا) بهذا الطرح، فإنَّ حصول الاستحالة سيتحقق في معظم- إنْ لم يكن كل- المواد التي نقدمها للنقاش على المستوى البيولوجي وعلى المستوى التشريعي العرفي.

والسؤال هُنا مرة ثانية (وأرمي به استهداف الجانب العرفي في فهم حدوث التغير الطارئ على المادة) هل الدهن مادة أم لا؟ فإذا كانت مادة فنحن نزيلها بشكل مُستَقِل دون المساس ببقية المواد الداخلة في تركيب ذلك النسيج الضخم؛ بل ومن ثم يتم أيضًا إزالة الدم، وبالمثل: هل الدم مادة أم لا؟ وإذا كانت مادة هل هي نجسة؟ وكلها أجزاء من الجلد؛ ولو صغنا السؤال بطريقة ثانية: فهل نقول- مثلًا- عن الدم بأنَّه جزء من الجلد وقد تم فصله منه، وعليه حصلت فيها الإستحالة (بحسب وجهة النظر المُقَدَّمة التي أُناقشها هنا)؟ أم نلتزم بكونه مادة حتى لو تم فصله؟ إذا لابد أنْ يكون هناك وضوح في الطرح؛ فما يصدق عليه العلم والعرف هنا يصدق عليه هناك، وما ينطبق على هذا ينطبق على ذاك. هذا أولًا، فلاحظ.

ويجب الالتفات إلى أنَّ المغزى هنا هو مُقارعة الفكرة بالفكرة على مستوى الطرح العلمي الدقيق في المجال البيولوجي المرتبط بأساس التعريف الوارد من قبل المراجع العظام (حفظهم الله ورعاهم) وبما يَتَعَلَّق بالعرف العام المُتَعَلِّق بنفس التعريف (والذي يستدعي أولًا فهم حقيقة موضوع الجيلاتين من لحظة تقديمه في النسيجي الحي إلى لحظة انفصاله ومن ثم تقديمه كمادة غذائية أو دوائية في الأسواق)، وهو التعريف الذي بيَنتَه في الفقرة العاشرة من الحاشية في التحقيق البحثي بجزئه الأول، حيث اكتفيت عندها بذكر ما جاء في أمور الفصل الرابع (الأمر الرابع: الاستحالة) من كتاب الطهارة لسماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله الوارف، وبيَّنت بعدها أنَّ نفس المعني ورد أيضًا في كتاب موسوعة الإمام الخوئي قدس سره الشريف لسماحة الشيخ علي الغروي في فصل المطهرات (موضوع الاستحالة). 

ولقد جاءت كل التعريفات على اختلاف نصوصها متوافقة مع العبارات التي صاغها السيد السيستاني حفظه الله والتي كان نصها التالي: "هي تبدّل شيء إلى شيء آخر يخالفه في الصورة النوعية عرفاً، ولا أثر لتبدّل الاسم والصفة فضلاً عن تفرّق الأجزاء، فيطهر ما أحالته النّار رماداً أو دخاناً، سواء كان نجساً، كالعذرة، أو متنجّساً، كالخشبة المتنجّسة، وكذا ما صيّرته فحماً إذا لم يبق فيه شيء من مقوّمات حقيقته السابقة وخواصّه من النباتيّة والشجريّة ونحوهما. وأمّا ما أحالته النّار خزفاً، أو آجراً أو جصّاً أو نورة، ففيه إشكال، والأحوط لزوماً عدم طهارته، وأمّا مجرّد تفرّق أجزاء النجس أو المتنجّس فلا يجب الحكم بطهارة المائع المصعد فيكون نجساً ومنجّساً. نعم لا ينجس بخارهما ما يلاقيه من البدن والثوب وغيرهما". 

ولقد ذكرت بأنَّ تعريف سماحة السيد السيستاني (أعلاه) يتوافق جوهريًا مع فهم العلماء والباحثين والبيولوجيين للتغيرات الكيميائية التي تطرأ على المواد فتغيرها من حالة لحالة أخرى وتُعطيها صفات ومميزات جديدة، مع استحالة رجوعها مرة ثانية لحالتها الأولية (مثالها العلمي: عملية الاحتراق). وهذا التعريف يأتي مُعاكسًا لفهم التغيرات الفيزيائية التي تغير من حالة المادة دون أنْ تُغير من صفاتها، بحيث يمكن رجوعها لحالتها الأولية (مثاله العلمي: تحول الماء إلى ثلج أو بخار). ويجب أن نُلاحظ الفقرة الأخيرة في تعريف الاستحالة الاصطلاحي (أعلاه) الذي ينُص على: "وأمّا مجرّد تفرّق أجزاء النجس أو المتنجّس فلا يجب الحكم بطهارة المائع المصعد فيكون نجساً ومنجّساً ". ونحن هُنا واقعًا نتحدث عن تفرُّق أجزاء لمركب نسيجي ضخم به مواد متعددة دون حدوث أي تغير عليها، بل واحتفاظها بصفاتها البيولوجية والفيزيائية والكيميائية. 

ثانيًا: أمَّا معاملته بالحمض كما ورد في العبارة التي أُناقشها علميًا أيضًا، فهذا لا يقارب حقيقة التطبيقات التقنية وهو بعيد عن فهم ما يحدث عند عملية الفصل. فلا يُتَصَوَّر بأنَّ المادة قد وقع عليها الحمض كما يقع على المأكولات الغذائية، بل هنا نتحدث عن تغيير الوسط الهيدروجيني من أجل التأثير على الدهون الداخلة في تركيب الجلد (إنْ كان الجلد هو المُستدف في عملية الفصل). 

إذًا نحن نتحدث عن تغيير الوسط الهيدروجيني في الماء لتفكيك الدهون وإبقاء كل المواد الأخرى البروتينية في حالها وبكفاءتها البيولوجية دون المساس بصفاتها وخواصها. الأمر الآخر، هو أنَّ بعض المركبات الحامضية التي تُستخدَم تدخل في عمليات فصل مُحدَدَة ولا تدخل في كل العمليات، حيث أنَّ هناك عمليات لا يُستَخدَم فيها مركبات حامضية؛ وعليه فإنَّ الاستدلال بوجودها ليس دقيق على فرض أنَّ الطرح في أساسه مقبول.

ثالثًا: إذا قبلنا بما جاء في الجملة المُناقشة، وهي: "بأنَّ تأثر أكثر جزئيات المادة وتعرضها للحمض كفيل بتحقق موضوع الاستحالة فيها، وعليه فالاستحالة حاصلة في الجيلاتين"؛ إذا فلنبحث عن تعريف شرعي آخر نستظل بظله ويتوافق مع فحوى هذه الجملة لنتمكن على المستوى العلمي البيولوجي أو العرفي العام من تقديم ما يخدم التكامل بين التخصصات المختلفة فيما يتعلق بالمسائل الابتلائية، لنكون بعدها في بوتقة واحدة تخدم تشخيص القضايا بطريقة عملانية.

المواضيع البحثية التحقيقية ذات الصلة المباشرة بهذا النقاش

2 comments:

  1. الموضوعات الخارجية للاحكام الشرعية لاتناقش بالدقة العلمية
    فهي عادة تناط بالعرف
    ومنها موضوع الاستحالة
    فالعرف يرى تحول الحليب الى جبن وزبادي
    والا فان المسالة عويصة جدا
    لما ابدى المحروس
    من جهد علمي مشكور عليه

    ReplyDelete
    Replies
    1. أعلم أخي عماد ما ترمي له و مطلع عليه، إلا أنَّ هذه المسألة على وجه الخصوص منوطة بالطرح العلمي ليتم تشخيصها شرعيًا خصوصًا وأنَّ موضوع الجيلاتين موضوع
      مستجد ولابد من ايضاحه علميًا ليبنى على الأمر مقتضاه.
      حفظك الله ورعاك أخي عماد ولا حرمنا الله من تواصلكم

      Delete